
25/10/2017
وقعت لشوشتي في الحب ولم يسمّ علي أحد! ويبدو أنني لن أقوم من وقعتي هذه، وإني لأرجو ألا أقوم منها. أني أتحدث عن سول، عاصمة كوريا الجنوبية، تلك البعيدة المجهولة، المرتبطة في أذهاننا بالنووي وتهديدات أمريكا، التي تقع بين الصين واليابان وكوريا الشمالية. ذات المئة ألف كيلومتر مربع، والخمسين مليون إنسان، تعود حضارتها إلى ٨٠٠٠ عام قبل الميلاد، واسمها مشتق من مملكة كوريو، السلالة التي سادت منذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى العصور الوسطى لتحكم الشرق الأدنى كاملا وصولا إلى روسيا، عاصمتها وأكبر مدنها سول التي ذات العشر ملايين إنسان، سول الساحرة، اللوحة الإلهية، غابات كثيفة في المنتصف تحيط بها المدينة كطوق دائري رائع، ليحميها أخيرا سلسلة من الجبال البركانية تشكل أقصى ما تراه عيناك، ويقسمها من المنتصف نهر هان. سول الخامسة في أعلى اقتصاد عالمي!
أنا أتحدث عن أحد أربع عمالقة الاقتصاد الآسيوي، السابعة في أكبر تقدم اقتصادي على مستوى العالم. رابع أكفأ نظام رعاية صحية في العالم. الأولى كأكبر مُنفق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي. صاحبة أعلى عدد لخريجي العلوم والهندسة. والثالثة عالميا في معيار رفاهية الشباب. موطن امبراطورية سامسونج وهيونداي كيا و إل جي. الدولة الأكثر ابتكارا في العالم لمدة 4 سنوات متتالية منذ ٢٠١٤حسب مقياس بلومبرغ للابتكار. صاحبة المرتبة الأولى في كثافة البحث والتطوير وتصنيع القيمة المضافة، المسجلة لأكبر عدد من براءات الاختراع، والثانية في كفاءة التعليم العالي والرابعة في كثافة التكنولوجيا العالية وعدد الباحثين. أول دولة في العالم تنتقل بشكل كامل إلى الإنترنت عالي السرعة، لديها أسرع سرعة إنترنت في العالم وأعلى ملكية للهواتف الذكية، وتحتل المرتبة الأولى في تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والحكومة الإلكترونية وتغطية الجيل الرابع من الاتصالات.
صاحبة ظاهرة الموجة الكورية، وثقافة البوب ذات التأثير العالمي، مثل K بوب و K دراما!
حسنا لا يهمني أن أقنعكم أنها تستحق الحب، فالحب أعمى، قد تكون دولة متخلفة، المهم أني أحببتها، لست أدري ما الرابط العجيب الذي يربطني بهذه المدينة!
بعض الشغف ينقلب حبا، رغبة في الوصل وتوقا إلى المستحيل، لذا كثيرا ما يتحول الحب بعد وصل الحبيب إلى اكتفاء بسبب الملل أو بسبب عدم تطابق التوقعات مع الواقع. توقعت أن يكون حبي لسول كذلك، أنني حال لقائي بها سيزول جنون الحب ليتحول إلى مودة خفيفة تقل مع الوقت لتختفي. لكني حتى الآن لا أصدق أنني التقيت بها، ومشيت في شوارعها وخالطت ناسها. فبعض الحب يشتعل ويتّقد عند اللقاء وآخر يخفت ويزول. قد يكون النوعان حقيقيان، فالحب صندوق مليء بالمفاجآت، ويجب عليك أن تكون جريئا كفاية لتفتح كل الصناديق لتجرب كل حب جديد، ولتكمل الطريق للنهاية وأن تتحمل كل المخاطر، لترى من أي نوع سيكون حبك! لتكتشف هل سيكون اللقاء ماء فاترا، أم بنزينا قابلا للاشتعال أو حتى ديناميتا متفجرا على حين غفلة!
مغادرتي لسول كانت أشبه باستيقاظي من حلم لذيذ، أو كمن أخذ مني الحلوى القطنية الوردية التي كنت غارقة في حلاوتها ونعومتها، كاكتشافي بعد وصولي إلى هدفي أن الرحلة ذاتها هي التي كانت رائعة، كفراقي لحبيب لا أطيق أن أبعد عيناي عنه، وكلما ودعته، عدت لأحضنه مرة أخرى كأنها الأولى، حتى أترك قلبي بين يديه وصورتي في عينيه للمرة الأخيرة! تلك الجاذبية الفائقة، ذلك المجال المغناطيسي الذي يمتص روحي إلى ثقب أسود عميق لا قرار له! كيمياء المدن تماما ككيمياء البشر، التي لا فكاك منها! ذلك الحب المجنون الصاخب الوقح النزق المغرق في الأمل السخيف، لكن مسرحه قلبي، أما في الخارج لا يُسمع سوى أصوات حفيف الشجر في شوارع سول الواسعة النظيفة!
في الحب الحقيقي لا يمكن أن تشعر بالغربة، حتى لو التقيت بحبيبك للتو، لأن عالم الأرواح لا قيمة فيه للزمن ولا للاعتبارات الشخصية. هو منجنيق عملاق ذو فوّهات لانهائية تنطلق منها الأرواح بسرعة هائلة وبشكل متواصل، لتتشابك وتتآلف أو لتتصادم وتتنافر!
لم أشعر بسول بالغربة التي شعرتها في أوروبا، وكأنهم يقولون لك نحن شعوب شرق آسيا البشوشون المتواضعون، مهما تطورنا وتقدمنا، فكلنا بشر متشابهون!
في سول تلتقي المتناقضات لتتحول إلى لوحة رائعة، لو تخيلت مكوناتها جنبا إلى جنب لضحكت من سخافة الفكرة، لكن يصدمك جمالها في النهاية عندما يضعها الله بترتيبه الخاص. تماما كاللونين الأزرق والأخضر اللذين لا يلتقيان في تنسيق جميل إلا من صنع الله، في خضرة الشجر وزرقة السماء، فهل تخيلت في حياتك مثلا أن تلبس بنطالا أخضر وقميصا أزرق؟ فما بالك بالغابات الخضراء الشاسعة والسماء الزرقاء الممتدة إلى ما لانهاية؟
كذلك وجدت سول، كامرأة عجوز ذات وجه مجعّد للغاية، تلبس ملابس متواضعة، تجر وراءها عربة تسوق مليئة بالخضار والفواكه ،التي لا بد أحضرتها لتطهو لعائلتها، تمشي الهُوينى ببطء وهدوء وإصرار، لتدخل القطار السريع الذي تفوق سرعته ٤٢٠ كلم في الساعة الذي صنعه أولادها و أحفادها، ولم تستورده بلادها من الخارج، لتجلس إلى جانبك في طريقكما إلى غانغام أو إنسادونج، لتخنقك رائحة السمك وأعشاب البحر النفاذة من ملابسها، لتحبس أنفاسك قليلا في اشمئزاز ،في البداية، ثم لتطلق حواسك كلها لتستنشق الصورة كاملة لتدخل إلى صدرك و تعشش في خلاياك!
لقد تنفست سول بقوة ثم حبستها في صدري كي لا أطلقها أبدا! تنشّقتها نجاحا لي! وانتصارا جديدا وبها سجلت رقما قياسيا على نفسي!
فهل أحببت سول حقا أم أحببت نفسي فيها؟ أترى حبي لها تحول إلى لهفة مجنونة لتحقيق هدفي لمجرد رغبتي في الإنجاز وحسب؟ على الحالتين هي حبيبة، واكتشفت أن حبي ما زال مشتعلا لقد حرّرتني سول! لكن، أين هي صور سول؟ أقول لكم، إني لأعتبر الصور الفوتوغرافية وحتى الأفلام لا روح فيها ولا معنى لها، مقارنة بالصور التي تحفظها الذاكرة، لأنها تكون محفورة مع الأصوات والأضواء بل وحتى الروائح! منظر المدينة من أعلى برج سول لا يُنسى، ولا يُختزل في صورة خرساء بكماء، أو فيلم أناني لا تجاوب فيه!
كيف أصور لكم أني أشعر وكأني ولدت من جديد؟ مع رائحة سمك الأنشوفي النفاذة، وشوربة أعشاب البحر الخضراء القاتمة الاحتفالية في الصباح الباكر، وأنا أتناول بإصرار غبي التوبكجي الحار جدا الذي يسبح في بحر أحمر لم يختلط بدموعي البيضاء المنهمرة، التي أمسحها بين كل قضمة وأخرى دون أن أتوب، ثم يزعجني التصاق كعك الأرز الدبق بأسناني لأعلكه طويلا، و أنا أحركه بلساني من جهة إلى أخرى في فمي حتى يذوب تماما، كندفة ثلج تتراقص تحت أشعة الشمس حتى تختفي، لأصل إلى النودلز الثخينة السمينة التي لا تستطيع التشبث ببعضها البعض جيدا على عيدان الأكل المعدنية بسبب ثقلها لتتساقط باستسلام، كمن حاول أن يمارس الحمية حتى وقع في شر أعماله حال إجابته لشهوات بطنه التي لا تغتفر، ثم أحاول التقاط الذي أستطيعه منها ليحرق لساني وأعلى حلقي، قبل انزلاقها في صحن الشوربة الغنية بالقريدس الذهبي اللامع، ليتطاير منها القليل ليلوث الطاولة الخشبية وملابسي العبقة برائحة ثمار البحر في فوضى محببة، لأتسلى بين كل لقمة ولقمة بقطعة صفراء فاقعة أو حمراء دامية من مخلل الكيمشي الشهير الطازج الحار الذي يقرمش كأجمل سيمفونية موسيقية عزفها بشر، لأنهي وجبتي أخيرا بكرات حلوى الأرز الشهية البيضاء الثلجية المحشوة بالفاصولياء السوداء القاتمة، ثم أهلط مكعبات جلي الشاي الأخضر الشفافة المنعشة التي لا تكف عن الرقص!
أعطوني كاميرا على وجه الخليقة تستطيع التقاط هذه الصورة عدا الكلمات!