
24/12/2016
أتعرف ما هو تدريب البراغيث؟
“البرغوث حشرة يمكن أن تقفز لعلو من نصف متر إلى متر. لكن إن وضعتها في علبة زجاجية مغلقة لمدة ثلاثة أيام فإنها ستتعود على القفز لعلو علبة الزجاج فحسب. وحتى لو فتحت الغطاء بعدها فإنها لن تقفز أعلى من ارتفاع العلبة الزجاجية، وإن تكاثرت فكل نسلها سيقفز إلى نفس العلو إلى الأبد. هذا هو تدريب البراغيث.. في داخل كل منا برغوث صغير، كان قد وضع فيما مضى في علبة زجاجية مغلقة، هو أو أبوه وأجداده. وما زال حتى الآن يقفز إلى نفس العلو ظانا أن هذا هو العالم فقط! كلنا تعودنا أن نصل للمسموح فقط، ونخاف أن نقفز أعلى لمجهول لا نعرفه”.
نخاف أن نطير إلى الفضاء الرحب، ونخاف من المعرفة ومن الحرية لأنه يتبعها المسؤولية. ولتكون حرا لا بد أن تكسر كل القوالب التي تعودت أن تعيش فيها. والتي أجبروك عليها. كل العادات والتقاليد وحتى الدين الذي ورثته عن أهلك، كل ما تراه في مجتمعك، عليك أن تكسره وتنسف كل مسلَماتك نسفا حتى تعود فتبني أساساتك حجرا حجرا.
وعلى هذا جاءت كل الأديان السماوية لتكسر كل موروث
ولتحرر الإنسان من القيود التي وضعها لنفسه! نسمع كثيرا عن غير المسلمين وقصص
إسلامهم، نغبطهم على قدرتهم في لحظة ما على كسر كل شيء على الإطلاق لبناء شيء جديد
من الصفر. ننتشي بسماع قصص إسلامهم لأنها عبارة عن تحرر. لكننا لا نحكي قصصنا نحن
المسلمون بالوراثة في عوائل عارفة وملتزمة بالدين.
كلنا نتوق إلى تلك اللحظات النورانية عند تكشف الحق
وانحسار الحجب. وليس لزاما أن نكون غير مسلمين فنسلم لنعيشها، أو مرتكبي كبائر
لنتوب. أو حتى لا أرتدي الحجاب لأهتدي! فعائلتي أمي وأبي التزما بالدين واهتديا في
أواخر عشريناتهم، فورثت عنهم الدين.
وكنت في مراحل طفولتي وشبابي قد قرأت مئات الكتب في
الدين والفلسفة والأدب. وتعرضت للعديد من الحركات الإسلامية وقرأت عنها وعشت معها
بدءا من الإخوان المسلمين والسلفية والصوفية وحتى الشيعة، حتى بلغت الثامنة عشرة
من عمري، خرجت إلى مجتمع أكبر فكان لابد من نسف مسلماتي لأستطيع التأكد من ثبات
الأساس قبل الانطلاق في العالم الرحب، لأقفز خارج العلبة الزجاجية.
كان لدي الكثير من الأسئلة عن الوجود والله والحياة
والقضاء والقدر وكل هذه الأمور الفلسفية والأساسية التي لم أجد لها جوابا يشفي
غليلي عند الأساتذة والشيوخ وعلماء الدين من حولي. كنت أذهب إلى مكتبة الجامعة
الأردنية أفترش الأرض لأقرأ وأبحث. بقيت في هذه المرحلة شهورا حتى فتح الله علي
ووجدت ذلك الكتاب الذي أجاب أسئلتي حرفيا وكأن المؤلف كان قد كتب الكتاب من أجلي.
حينها عرفت أن الله كان ينظر إلي، شعور الأمان وأن يد الله تلقفتني كان غامرا.
أيقنت حينها أنه لا يمكن توقع الهداية كحدث غيبي، كوحي
يوحى لنا دون أساس أو مبرر له في حياتنا. إن ممارسة الإنسان وتجربته تقودانه إلى
الوعي، وهذه هي “الهداية”. والله تعالى يقول “والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”
أي أن شرط الجهاد والممارسة
ضروري لكي يخلق الوعي لدى الإنسان ويهتدي للطريق الصحيح. فعليك أن تبحث وتقرأ
وتتعب. لا أن تتفلسف على الدين وتدحض المسلمات دون بحث مخلص. وإن فعلت هذا فحتما
أنت لست بصادق لا مع نفسك ولا مع الله.
كان كتاب “القضاء والقدر في الإسلام” في سبعة
مجلدات لفاروق الدسوقي. والطريف في الأمر أنني الآن وبعد ثلاثة عشر عاما، لا أذكر
حتى أسئلتي ولا الإجابات الصحيحة بالنسبة لي، لكن قلبي مطمئن أنني وجدت الحقيقة
وأنها محفورة في عقلي اللاواعي. وفهمت حينها عندما سألت أمي أسئلتي الوجودية لماذا
كانت تجيبني: لا تتفلسفي علي. قولي: اللهم امنحني إيمان العجائز! كانت أمي قد بحثت
عن الحقيقة التي سببت بهروبها بشكل غير مباشر من راهبات الفرانسيسكان في حلب حتى
وجدتها حتى لو لم تذكرها الآن، مثلي أنا.
ومع أن والداي كانا قد مررا إلي عصارة بحثهما وتعبهما
وجهادهما في سبيل الهداية كان لا بد لي من جهاد خاص بي للوصول إلى هدايتي أنا. يرى
المفكر عبد الكريم سروش أن الشريعة على الرغم من قدسيتها فإنها صامتة، أو بتعبير
آخر إن لم تسألها لا تجيب. وكل إنسان يستطيع أن يتعرف إلى الشريعة بحسب معلوماته
وبقدر ما يطرح من الأسئلة. ودين كل شخص يكون بقدر ما يسأل ويجد الجواب.
مر عامان على تلك الهداية، بدأت بعدها بالضياع مرة أخرى.
أتدري عندما تشعر أنك ناقص! أن تعرف الأجوبة الصحيحة كلها لكن بدون روح؟ فالفكر
وحدة مهما كان عميقا، لا يخرج عن دائرة العقل، وإن التغيير المنشود يحتاج إلى
العاطفة المتأججة التي يمكن أن تشعل لهيب الثورات في العالم. فكل ثورة أو نهضة أو
حتى دين يتألف من عنصرين اثنين هما العقل والشوق. الأول نور والآخر حركة. أحدهما
يبعث على المعرفة والبصيرة، والآخر يبعث على الحركة والغليان. فبعد أن كسرت كل
شيء، بدأت أجمع القطع التي لن يلصقها إلا العاطفة.
وعدت أدراجي إلى المكتبة لأبحث وأبحث، حتى وجدت الدين
ثوريا بحتا، يغذي أتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط بهم من بيئة مادية
أو معنوية، ويكسبهم شعورا بالمسؤولية تجاه الوضع القائم، ويجعلهم يفكرون بتغييره
ويسعون لذلك فيما لم يكن مناسبا. كنت أبحث عن دين وإيمان ينجي البشرية، لا أن
ينجيني أنا فحسب.
فأنا لا أريد أن أكون في هذه الدنيا سجينة، أسيرة، شقية، أريد أن أكون عزيزة مرفوعة الرأس. فمن من يموت هنا ذليلا يبعث هناك ذليلا أيضا. أريد دينا لا يذل الإنسان أمام الله، فالإنسان هو حبيب الله ومعينه وقريبه والأمين على رسالته. إنه تعلم على يدي الله فسجدت له الملائكة. وإن إنسانا حاملا لتلك المسؤوليات الجسام يحتاج إلى دين يحفظ توازنه، دين لا يقوده إلى الآخرة المطلقة ولا إلى الدنيا المطلقة. لا يكفي أن تعرف الحق، بل عليك أن تكون قويا فيه حتى لا تخشى في الله لومة لائم.
وأخيرا وجدت شريعتي. ومع أول
كتاب له “عن التشيع والثورة”، اكتشفت أنني كنت قد قرأت أكثر من نصفه وقد
نسيت أن أجلس. لقد قرأته واقفة في المكتبة من لهيب كلماته. كانت تجربتي مع شريعتي
من أنبل ما مررت به في حياتي، ولم ينضب منها زادي بعد.
فلتبدأ رحلتك في البحث عن الحقيقة لتسلم حقا. وصدقني قصة إسلامك أنت ستكون أحلى بكثير من غير المسلم، لأنها ستفتح أمامك آفاقا أرحب من نقاشات الحلال والحرام لا يبصرها إلا من كسر الموروث ليصل إلى الحق الساطع. وادع معي دائما: إلهي أجج فيّ نار الشك المقدسة حتى إذا أحرقت كل يقين نقشوه في داخلي، تشرق البسمة الحنون على شفتي فجر اليقين الذي لا غبار عليه!