الإسلام دين تجلى للإنسانية منذ البداية في صورة (لا) صدع بها وارث إبراهيم، محمد صلى الله عليه و سلم، (لا) يبتدئ بها شعار التوحيد، و منها انطلق الإسلام في مواجهة الشرك و الإلحاد، دين أصحاب المصالح و السلطة و الجاه.
أما التشيع فهو بمثابة (لا) ثانية صدع بها علي والحسين أمام المد اليزيدي الأموي، وهكذا، كان مسار الإسلام مسارا غريبا، حيث تمكن الجميع من العرب والعجم والترك والمغول والتتار من بلوغ سدة الحكم ما عدا آل النبي وأهل بيته! ومع أن رفض حكم آل النبي كان يمكن أن يكون بحجة أن الحكم بالأهلية لا بالوراثة، إلا أن التاريخ الإسلامي بأكمله منذ انتهاء حكم علي بن أبي طالب وحتى انهيار الدولة العثمانية، كان بالوراثة بغض النظر عن الأهلية. فهل كان سيكون حكم آل البيت أهون الشرّين لو أنه حدث؟ أم أن إمامة آل البيت هي إمامة معنوية لا سلطوية؟
لقد حافظ التشيع على ثوريتيه ضمنيا على مر التاريخ، لكننا نحن السُّنة بحاجة إلى (لا) جديدة تبث الروح في مواتنا. فإن كل مذهب أو مدرسة اجتماعية أو دينية أو طبقية أو قومية، تظهر إلى الوجود على أساس تلبية متطلبات زمانية أو طبقية أو قومية معينة، وتدفع أتباعها ومريديها نحو العمل من أجل تحقيق هذه الآمال والتطلعات التي يحملها المذهب الحركي أو المدرسة التغييرية، وتواصل هذه الحركة سيرها باندفاع ورغبة جامحة في كسر القيود وتحطيم الحواجز التي تعترض طريقها وعادة ما تكتسب طابعا نقديا عنيفا وتحتج على كل شيء وتقترح بديلا عن كل حالة راهنة ووضع موجود.
فإذا تحقق لها ما تريد، كما حصل للسنة منذ الخلافة الراشدة، وحصل التحول الاجتماعي الذي كانت تطمح إليه، ووصلت إلى أهدافها كلا أو بعضا، أو أنها وصلت إلى أوج قدرتها وبلغت النقطة القصوى في الخط البياني لنشوئها ونموها، وقتئذ تنطفئ جذوة التغيير في نفوس أصحابها، فلقد وضعت الحرب أوزارها ولم يعد ثمة ما يقف في طريق الثائرين، آنذاك تبدأ الحالة الثورية بالضمور تدريجيا حتى تتلاشي تماما! وتتحول الحركة إلى نظام ذي طابع محافظ، فلقد انتقل أتباع الحركة من خندق المعارضة إلى فندق السلطة، وبطبيعة الحال، ستظهر لديهم نزعة في الحفاظ على موقعهم السياسي و الاجتماعي ضد الأخطار التي تحيق به، و من الآن فصاعدا سوف ينظرون إلى أي حركة تجديدية على أنها مظهر من مظاهرالمؤامرة التي تستهدف تقويض أركان النظام و سيحكم على أتباع الحركة الجديدة بالتمرد وتلصق بهم تهمة الخيانة العظمى. هنا يتجسد بوضوح قانون تبدل الحركة إلى نظام، أو الفرق بين الإيمان المتحرك movement و الإيمان المتحجرInstitution . هذا القانون الذي بوسعه تحويل عقيدة نابضة قادرة في يوم من الأيام على تحريك أمة بأكملها وعلى شتى الأصعدة والمستويات، إلى مجرد نظام ونسق اجتماعي رسمي مرتبط مع سائر الأنساق الاجتماعية كالأسرة وأنظمة الحكم والاقتصاد، ارتباطا مصيريا بحيث لا يمكن التفكيك بينهما بأي شكل.
وعلى العكس منا كان الشيعة الأوائل أقلية محكومة ومضطهدة تطمح للثورة، وهذا التوجه الاجتماعي التقليدي شكل تيارا اجتماعيا جارفا ليتحول إلى قوة هجومية منظمة وضعت يدها على أعظم رصيد اجتماعي وروحي وفكري كامن في ضمير الشعب ووجدان المجتمع الإيراني، وهو الذي قام الخميني بتفعيله حتى نجحت الثورة الإيرانية عام 1979 ، وهي حصيلة تراكم غضب وسخط ظلت تغلي في نفوس الناس لمدة عشرة قرون، منذ كربلاء الحسين، من خلال تعسف رجال المذهب السني الحاكم رسميا، فلقد تمكن القادة الجدد وبمهارة فائقة من استرداد تلك الطاقة الكامنة واستخراجها من مكامنها ومن ثم توظيفها في خدمة الهدف السياسي الذي يصبون إليه، بينما ما زلنا نحن السنة حتى اليوم نتوهم أننا الثلة الحاكمة، وننأى بنفسنا عن الحركة، لنلتزم بنظام انهزامي أسود ميت لا يختلف كثيرا عن أي نظام صفوي أو ظالم.
يقال أن الشاه عندما ملّ من الخميني، سأله كم تريد كي تتنازل عن الثورة، فأجابه الخميني: بل كم تريد أنت لتتركنا؟ فلقد أحيا الخميني ه>ا النفس الثوري عند الشيعة، و لهذا عندما سئل كيف استقبل الشباب الدبابات بأجسادهم في ثورة 79، فأجاب أنهم قد تعلموا حب الموت، فمتى ما انكسر الحاجز انتصروا! لقد كان الشيعة طيلة التاريخ بانتظار الخلاص على يد الإمام الثاني عشر الذي سيخرج من السرداب، حتى عندما قام مصدّق بثورته في 1952 لم يتبعه الإئمة والفقهاء، حتى جاء الخميني ومن حوله بعدم ضرورة انتظار الإمام وأنه يمكن العمل وراء نائب الإمام، بما يسمى ولاية الفقيه، لقد كسر االخميني سلبية انتظار الشيعة المرسخة عميقا في 15 عاما فقط.
وعندما يتحول الانتظار من فلسفة سلبية تدعو إلى الركون والاستسلام للظلم، إلى الإيجابية باعتبارها حتمية تاريخية وهي أن العدالة ستنتصر في النهاية، وهذا أعظم عامل يمنح المظلومين الطاقة والإيمان، وجعلهم آملين موقنين بانتصار مصيرهم وانفجار نظام الاستغلال الحاكم على عصرهم. وهذا الإيمان لا يجعلهم سلبيين كسالى بلا مسؤولية، بل على العكس، يمنحهم الطاقة والقوة والثقة.
وهنا يبدو الفرق واضحا بين التفاؤل التاريخي والتشاؤم التاريخي، فأنا عندما أكون منتظرا بشكل سلبي، أعتقد أن نظام الحياة كامن في استقرار الفساد وتقويته ونشره، لكني عندما أكون منتظرا بإيجابية أكون متفائلا بالتاريخ، لأني أومن أن النظام الحتمي للتاريخ هو في الانتظار الحاسم للعدالة.
وكما يقول سان بول سيمون: من المؤسف أن الإنسان اليوم في الحياة الاستهلاكية الدنسة الضيقة الأفق العابدة الحاضرة السائدة في الغرب، لا ينتظر أي شيء قط إلا المترو.
فما الذي بانتظاره نحن السنة؟ إن آل فرعون الذين نحتفل بغرقهم في البحر، نهضوا من بين الطين و الطمى وعادوا إلى التعذيب والتجبر، لقد فرّ موسى شريدا طريدا مرة أخرى، لسان مقطوع، قلم مكسور، شفتان مطبقتان، يدان مكبلتان، أقدام دامية، طريق مسدود، وحمل ثقيل. موسى غريب في الصحراء مشرد، يخرج مترقبا خائفا من فرعون! محمد على مرتفعات الطائف، وحيدا داميا جائعا طريدا جريحا يرمى بالحجارة. لقد غاب عن بالنا أن الحسين ليس سياسيا حارب يزيد لأنه عصى وطغى، إن الحسين وارث الراية الحمراء التي تناقلتها الإنسانية يدا بيد منذ آدم . فقد كان الحسين شهيدا قبل أن يستشهد، استشهد في عقر داره قبل أن يُنحر في كربلاء، منذ أن دعاه الوليد حاكم المدينة إلى البيعة و رفضها وقال : لا، كانت هذه ال(لا) رفضا و نفيا لشيء اختار بإزائها الشهادة، فالحسين شهيد منذ تلك اللحظة، لأن لفظ الشهيد و الشهادة لا يطلق بناء على القتيل وعملية القتل، و إنما الشهادة بناء على هذا الفهم شهادة على أمر ما و نهي و نفي ورفض لأمر ما.
فالشهيد هو من يبادر إلى اتخاذ القرار، ويختار، ثم يبلغ الشهادة حتى لو كانت الفاصلة الزمنية بين اتخاذ القرار والشهادة بلغت الشهور بل السنين. إن الشهيد لا يختار الموت ليهرب من الواقع و يفر من المشاكل و الصعوبات ويفلت من العار والضغوطات، إنه لا يختار الموت لينكمش ويفر من الزحف، وإنما يختار الموت ليبدأ هجوما كاسحا.
إن تاريخ المطالبة بالعدل تيار مستمر، ليس حوادث متفرقة،فلم يهبّ إبراهيم فجأة لتحطيم الأصنام، وثم في لحظة تحدث الثورة والنجاة من الأسر بقيادة موسى ضد فرعون، من مكان ما تحدث المصادفة التاريخية بأن يقوم رسول الإسلام بالاشتباك مع أصحاب العبيد وتجار قريش و الإمبراطوريات الباغية، ومن ثم يمكن أن تحدث أحداث متفرقة هنا أو هنا من هذا القبيل، أو لا تحدث، وتنتصر أو لا تنتصر!
إن النضال من أجل الحرية يشبه نهرا يجري في مجرى الزمان، هناك إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعلي والحسين، وهكذا دواليك حتى آخر الزمان، (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ) . لا يقول الله هنا ننجي هذه الطبقة المسكينة والضعيفة من الظلم، بل يقول: نعطيهم القيادة، ونجعلهم على رأس الأمر، ونجعلهم أئمة، نجعلهم زعماء الأرض ونجعلهم ورثة التاريخ، ورثة ذلك الذي كان طوال التاريخ في الحياة وفي الأرض حكرا على القوى الغاصبة.
هل سنقدر على رفع الرايات الحمراء بدل السوداء؟ هل سنشعر يوما بما قاله الخامنئي: لا تدعوا بالشهادة، بل ادعوا بالعمر المديد كي تنعموا بالانتصار الكبير القادم!