7/6/2020
بسبب عملي كصيدلانية في مجال تصنيع وتسويق الصناعات العلاجية والتجميلية لأكثر من ثمان سنوات، سأقوم بكتابة مقالات متسلسلة عن فلسفة الجمال وتسليعها.
الجمال الأبيض (١)
في سياق الحديث عن التمييز العنصري، لا بد من الحديث عن جانب تعيشه النساء في العالم كل يوم، وفي بلادنا تحديدا، وهو أن مقاييس الجمال قد وضعها الرجل الأبيض تاريخيا وما زال المعظم يتبناها حتى يومنا هذا، وهذا يظهر جليا ابتداء من محاولة النساء تبييض البشرة بالمنتجات العلاجية أو التجميلية مرورا باستخدام أدوات التجميل لتفتيح البشرة وتكبير العيون وتصغير الأنف بما يسمى contouring واستخدام العدسات الملونة لتغيير لون العيون. وانتهاء بالمحاولات المستميتة والمجهدة لتمليس الشعر وصبغه بألوان أفتح.
وكأن صبغة الميلانين التي خلقها الله بتركيز أعلى عند أصحاب البشرة الداكنة والسمراء والسوداء والتي تمنح بشراتهم نقاء ومظهرا أفضل ووقاية من الشمس مما يحميهم من الإصابة بسرطانات الجلد، هي شيء قذر نرغب بالتخلص منه أو إخفاؤه قدر ما نستطيع.
بسبب عملي كصيدلانية في مجال تصنيع وتسويق الصناعات العلاجية والتجميلية لأكثر من ثمان سنوات، وبعد القيام بعدة دراسات على الزبائن، و تفضيلاتهن، و المنتجات الأكثر مبيعا، فقد كان أكثر من ٦٠٪ من النساء في الأردن يبحثن عن منتجات لتفتيح البشرة و أكثر من ٨٠٪ يطلبن ألوان أفتح من لونهن الطبيعي بالنسبة للمكياج، وهذه نتيجة طبيعية، فالمجتمع بأسره رجالا ونساء يعطي أفضلية للأفراد أصحاب اللون الأبيض، فتجدهم ذكورا وإناثا، يكبرون واثقين من أنفسهم بسبب احترام المجتمع لهم جراء شعورهم بالقبول عادة والأفضلية اجتماعيا عند لعبهم مع الأولاد، وفي المدرسة تجدهم من المفضلين عند المعلمين، لذا من الطبيعي أن يكونوا من الأذكى في المدرسة بسبب اهتمام المعلمين الزائد بهم، و هكذا يشعرون بالثقة بأنفسهم أكثر فأكثر وذلك يزيد عند دخولهم الجامعة والقبول المجتمعي الذي يزيد في عمر الشباب نتيجة الشكل الذي يعتبر أجمل، فتجدهم أكثر شعبية من الآخرين، مع أنهم قد يكونوا في الكثير من الأحيان يفتقدون للصفات المستحبة اجتماعيا، فقد تجدهم أقرب إلى الغرور والثقة المفرطة في النفس والتعامل مع الآخرين بتعالي، ومع هذا تجدهم ما يزالون يستطيعون الحصول على الأصدقاء بسهولة. ثم تزداد التراكمات هذه في سوق العمل، حيث تكون الأفضلية بالتأكيد للشكل الذي يعتبر الأجمل خاصة للفتيات، ففي معظم مقابلات العمل يتم الاختبار بناء على الشكل أساسا ثم الأهلية، وإن تساوت فتاتان في الأهلية تعطى الأولوية للشكل، ولو كان هذا اعتراف ضمني برغبة المراجعين مثلا في مجال الخدمات بالتعامل مع موظفة على قدر من الجمال بالنسب لهم كجزء من حسن الخدمة. فتترسخ فكرة الجمال والنجاح وتزيد ثقة البيض بأنفسهم وتقل ثقة السمر والسود على الجانب المقابل، إلا رغبة بالثورة والتمرد وليس كنتيجة طبيعية متدرجة. والتفاصيل تتشابك أكثر عندما ندخل مجال الحب والعلاقات العاطفية والزواج، وكيفية اختيار الشريكة تحديدا من قبل الأهل في الزواج التقليدي أو من قبل الشاب نفسه كأفضلية للشكل بشكل مطلق، وكأن الزواج هو فرصة الرجل الوحيدة للحصول على أفضل المقاييس المعترف بها للجمال. لنصل مرة أخرى إلى الأطفال وكيفية تربيتهم على تفضيل اللون الأبيض، وكأن الطفلة البيضاء حازت الدنيا وما فيها، وقد أمنت مستقبلها للأبد بسبب شكلها، ولها الأفضلية على غيرها دون أدنى جهد يذكر لاكتساب الأخلاق الحميدة وغيرها من الصفات اللازم للطفل تبنيها واكتساب المهارات اللازمة للتعامل مع الآخرين ليصبح عضوا ومواطنا صالحا في المجتمع.
حتى عند محاولتنا أن نبدو أقل عنصرية عندما نقوم بمدح جمال ممثلة أو مغنية أجنبية سوداء فهي عادة ما يكون شكلها كملامح الأقرب إلى الرجل الأبيض، وكأننا نقول تغاضينا عن اللون لكن الملامح خط أحمر، أنف صغير عيون كبيرة وشعر منسدل.
الفتاة التي تعتبر أقل جمالًا يكون عليها أن تبذل ضعف الجهد لتثبت أنها جديرة بأي شيء وأن شكلها لن يؤثر على أدائها. عليها أن تكتسب مهارات وخبرات بشكل أكبر وتكون اجتماعية أكثر لتثبت نفسها والقائمة تطول، ويمكننا هنا أن نفسر الانطباع المتداول أن الممتلئين وأصحاب الوزن الزائد عادة ما يكونون مرحين ولديهم حس فكاهي، وهذا طبيعي بسبب نظرة المجتمع لهم وعدم تقبله لأشكالهم فيضطرون لتطوير شخصياتهم ليلقوا القبول الاجتماعي، قد يضطرون لإلقاء النكات وهم يتألمون لإرضاء من حولهم. وهلم جرا!
كل ما سبق مرتبط ارتباطا وثيقا بمقاييس الجمال التي وضعها المستعمر الأبيض. وهذا يرتبط أيضا بالمستوى الاقتصادي والطبقات الاجتماعية في المجتمع، فيزيد احتمال أن يكون استطاع (تحسين نسله) حسب قولهم من تزوج من عائلة من مستويات اقتصادية أعلى لأنهم عادة ما يكونون مرتبطين بشكل أو بآخر بالرجل الأبيض، مثل سفرهم للخارج وزواجهم من أجانب، أو اختلاطهم على مدى أجيال فيكونون من أصحاب الألوان البيضاء. وأيضا يزيد زواج البيض من بيض من التمييز العنصري ضد الملونين و داكني البشرة.
وحتى عندما بدأ منذ سنين سابقة الترويج للون الأسمر (التان) وهو لون البشرة المعرض للشمس ليصبح لون البشرة ذهبيا، فهو يعتبر شيئا ليس أصيلا، فاللون الغامق من الأصل يختلف عن اللون الذي تم تغييره بسبب الجلوس لساعات طويلة على الشواطئ لاكتسابه أو الذهاب إلى عيادات التجميل ودفع الأموال لاكتسابه تحت الأجهزة الاصطناعية. لأن هذا النمط من الحياة مرتبط بالطبقات الاجتماعية العليا.
وأخيرا، العنصرية ليست في أن تسيء معاملة البشر من اللون الأسود فقط، هذا ليعتبر تسطيحا وتسخيفا لمعاناة الملايين من الفتيات اللواتي ولدن وعشن بل ومتن وقد لا يعرفن أنهم قضين حياتهن بأكملها في تعامل عنصري مقيت من المجتمع ككل، ابتداء من الأهل الذين ربوا، إلى المدرسة التي ميزت، والمجتمع الذي حابى، والشركات الرأسمالية التي انتهزت، والسياسات الاستعمارية التي أسست لكل ذلك الفكر الظالم والمجحف بحق البشرية. فقد سلبونا بمقاييسهم القاصرة المتحيزة تلك القدرة على رؤية الجمال الحقيقي والمتنوع. علينا أن نميز بين الكمال الأبيض الكاذب الذي نراه على الشاشات وفي المجلات، ذلك الهوس الذي يدفع النساء إلى دفع الأموال واستخدام ما هو غير صحّي ليصلن إليه، وبين الجمال البسيط الطبيعي الذي يعكس الصحة الجيدة والذي يعطي المرأة الشعور بالرضا عندما تنظر إلى نفسها في المرآة. هذا الجمال الحاضر في كل درجات البشرة وألوان العيون وأحجام الجسد وملامح الوجوه وفي كل الأعمار!
فقد قام الأبيض الأوروبي بسلب البشرية جمعاء القدرة على إبصار الجمال عندما اقتلعوا عيوننا لنبصر بعيونهم العنصرية.
أي خسارة تلك؟