18/6/2020
في مثل هذا اليوم عام ١٩٧٧ تم اغتيال علي شريعتي و هو في الثالثة و الأربعين من عمره في شقته في ساوثمبتون في بريطانيا.
في وصيته لابنه إحسان:
(لا أدري ما هو دوري وما هو مصيري في هذا المخطط الذي رسمه الله للحياة، ولكني واثق أنني لست لاشيء.
أحمد الله لأنني عانيت كل التجارب والنكسات المتعاقبة، ولا يزال عودي صلبا، أي جلد سميك يغطي ويحمي هذا الجسد، إن بعض علماء النفس يقولون بأن الجيل الواحد لا يحتمل أكثر من هزيمة واحدة، وها أنذا أعد نفسي للهزيمة السادسة أو السابعة، الهزيمة أم النصر.. وما الفرق لنا؟ إن ذلك مهم جدا للتجار والرياضيين ومحترفي السياسة، أما بالنسبة لنا فالمهم هو أداؤنا لرسالة الله وقيامنا بواجبنا تحت كل الظروف وفي مواجهة كل الاحتمالات، فإذا انتصرنا نرجو من الله أن يقينا شر الغرور ونزعة الظلم واضطهاد الآخرين، وإذا هزمنا نرجو من الله أن يقينا من الذل والهوان والخضوع.
إن النعمة الوحيدة التي أتمناها لك في سيرك في هذا الطريق المسمى حياة هي أن تصادف روحا خارقة أو روحين، و بقلب كبير أو قلبين، و بفهم عظيم و جميل أو فهمين. و لكن لماذا لا أقول أكثر من هذا العدد؟ لأنه لا يوجد أكثر منه، الواحد هو أكبر عدد ممكن، و إنما ذكرت الاثنين من أجل الإيقاع و الوزن في الكلام، و لكن لا وجود لهذا العدد، مع أنني بإعجاز عشت هذا الكلام الموزن حقيقة في حياتي غير الموزونة.)
أحمد الله أن عرفت روحين خارقتين في حياتي أحدهما كان شريعتي، فقد عثرت عليه منذ 16 عاما في مكتبة الجامعة الاردنية، كان أول كتاب وجدته له هو عن التشيع والثورة، ذلك الكتاب الذي قرأته وأنا واقفة من لهيب كلماته، في الممر الأول إلى اليمين الذي ينتهي بالنوافذ، في قسم الأديان و يحتمي بحائط لم يعد أبيضا بمرور البشر، هذا الحائط الذي سندني بعد طول وقفتي و أنا أقرأ، قبل أن تمتد يدي في نهم بحثا عن بقية مؤلفاته على نفس الرف، حتى وجدت كتبه الأخرى : أبي أمي نحن متهمون، النباهة والاستحمار، محمد، التشيع العلوي و التشيع الصفوي، الحر، الدعاء، دين ضد الدين، الحج الفريضة الخامسة. كانت مجموعة كبيرة من مؤلفاته مهداة إلى مكتبة الجامعة الأردنية من السفارة الإيرانية. كانت ورقة الاستعارة التي تكون ملصقة في آخر صفحة من الكتاب بيضاء تماما في معظم كتبه. وكان لي شرف أن أكون أول من أستعيرهم. وكنت مصدومة، أن كيف لم أعرف عن هذا العملاق من قبل؟ أنا التي لم أترك كاتبا أو مفكرا او عالم دين إلا وقد قرأت له، وتعلمت عن مدرسته. معرفته أضاءت لي شبكة من المفكرين جديدة علي: جان بول سارتر، ماسينيون، فرانز فانون، مصطفى مليكان، عبد الكريم سروش، مرتضى مطهري، باقر الصدر، وغيرهم. فإن الكتب التي تستند ظهورها إلى كتب أخرى فوق الرفوف عبارة عن عوالم موازية.
شريعتي منظر الثورة الإسلامية في إيران، الذي تم اغتياله قبلها بعام واحد. شريعتي الذي اعتبره الشيعة سنيا والسنة شيعيا وكان مسلما علَويا.
أعتبر شريعتي كنزي الأغلى ومثالي الأعلى، فمن بعده فقدت الكتب الأخرى معناها. شريعتي أنبل تجربة شخصية حميمة مررت بها في حياتي. كان شريعتي مختلفا جدا، كان كمن أتى من عالم آخر، ككائن فضائي..وكان ثوريا بحتا.
من أمنياتي الأخروية أن أحضر محاضرة من محاضراته في حسينية الإرشاد في طهران و أن أفهم الفارسية لكي أتلقى منه الثورة حية بلغتها الأم لا مترجمة محرفة عن طريق آخرين..
و بعد قراءتي الموسعة له، وجدت أن مالك بن نبي قد نقل عنه فكره مخففا من ثوريته، و كذلك جودت سعيد نقل عن الاثنين.
لكن لم يكن أيا منهما في ثورية و طعم شريعتي اللاذع الرائع، الحلو المر!
عندما اكتشفته كنت كمن كان أعمى و أصبح مبصرا، كمن كان يضع نظارات مظلمة على عينيه ثم نزعها فاكتشف الألوان،
كمن كان أميا و تعلم القراءة فانسكبت الحياة عليه. كنت منبهرة حتى أنني تواصلت مع الملحقية الثقافية الإيرانية لأحصل على مجموعته الكاملة. بكيت كثيرا على بعض كتبه، و هببت واقفة احتراما على كتب أخرى!
لم يكن يعرفه أحد في بلادنا حينها، و إنني الآن سعيدة جدا و أنا أرى الشباب يقرؤون كتبه ويتدارسونها.
يؤمن شريعتي أن وجود الفقر لا يسبب الحركة، لكن الإحساس بالفقر هو الذي يسببها. فعلى المفكر أن يقوم بنقل التناقضات الموجودة داخل المجتمع إلى أحاسيس أفراده ووعيهم ومن ثم يقوم المجتمع لحركته بنفسه. فكيف يمكن لمجتمع أن يتغير وهو مازال لم يشعر ويؤمن أنه يستحق حياة أفضل؟ وإن الحالة المثالية لمثلث التحكم بالناس والمؤلفة من أضلاع ثلاثة: الاستبداد والاستثمار والاستحمار. الأول الذي يربط الإنسان من رأسه والثاني يقوم بتنظيف جيبه والثالث الذي يشرع بتقديم النصائح والمواعظ. في كتابه الصغير بعدد صفحاته، العظيم بأفكاره العميقة الناضجة الثورية، كتاب النباهة والاستحمار، يعتقد شريعتي أنه من سوء الحظ ألا ندرك ما يراد بنا، فننصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات، فيصيب غيرنا الهدف، ونحن لا نشعر.
إنك إذا لم تكن حاضر الذهن في ( الموقف )، فكن أينما شئت، واقفا للصلاة، أو جالسا للخمرة، فكلاهما سواء.
إن المستعمرين قد لا يدعونك دائما إلى ما يضرك، حتى لا يثيروا انتباهك، فتفر منهم إلى المكان الذي ينبغي أن تصير إليه، بل هم يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحيانا إلى شيء ما تعتقده أمرا طيبا من أجل القضاء على حق كبير، حق إنسان أو مجتمع. وقد تدعى لتنشغل في حق آخر، فيقضون هم على حق محق أهم.
فعندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحد للصلاة، و التضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف إلى عمل آخر، هو الاستحمار، وإن كان عملا مقدسا!
أما نهاية وصيته فكانت:
(إن أول رسالة تقع على كاهلنا هي الكشف عن أكبر مجهول غامض لا تتوافر عنه أي معلومات وهو جماهير الشعب. فقبل الانتماء إلى أي مذهب، ينبغي أن نتعلم لغة مخاطبة الجماهير، فنحن الآن بكم، لقد نسينا لغة الجماهير منذ أول ظهورنا. وهذه الغربة عنهم مقبرة لكل تطلعاتنا و عبث كل مساعينا.
و آخر كلامي مع أولئك الذين يصوغون قالبا لاتجاهي المذهبي و هم جاهلون به، هو:
دين أمثالي ليس اعتباطا ولا سهلا
لا إيمان أوضح من إيماني
مثيلي في الدهر واحد، و هو مؤمن
فما في الدهر أحد بلا إيمان
الإيمان في قلبي عبارة عن ذلك السير التصاعدي الذي يبدا في حياة الإنسان بعد بلوغ سقف العدالة الاقتصادية بالمعنى العلمي للكلمة، و الحرية الإنسانية بالمعنى غير البرجوازي للمصطلح).