مريم الدجاني
إن تواجد الإنسان بين مجموعة من الناس كفيل بتغيير مواقفه ووجهات نظره لتصبح أكثر اتساقا مع المجموعة، مقارنة بالطريقة التي يتبناها عادة في تفكيره و اتخاذ مواقفه عندما يكون وحيدا مع ذاته. فهو يحاول أن يصبح أكثر شبها و تناغما مع الناس من حوله، كما لو أن وعيه يندمج مع وعي المجموعة. إن هذا الميل إلى تبني وجهة النظر السائدة للمجموعة التي ينتمي إليها الإنسان دون وعي، أطلق عليها عالم الأنثرولوجيا الفرنسي لوسيان ليفي برول مصطلح (غموض أو سحر المشاركة) participation mystique . و تم تطويره من قبل عالم النفس كارل يونغ.
يصف يونغ سحر المشاركة: كلما عدنا مرة أخرى في الحياة، كلما رأينا أن الشخصية تختفي تحت طبقات من العقل الجمعي. وإذا عدنا مباشرة إلى علم النفس البدائي، فلن نجد على الإطلاق أي أثر لمفهوم الفرد. فبدلا من الفردية، نجد فقط علاقة جماعية أو ما يسميه ليفي غموضا للمشاركة.
في حالة من غموض المشاركة، يكون موقع الإرادة و الوعي التوجيهي، بطريقة ما، خارجا و منفصلا عن أفراد المجموعة. تماما مثل مستعمرة النحل أو النمل، يتم توجيه كل عضو على مستوى اللاوعي من خلال أنماط السلوك التي تنبع من الهيكل التنظيمي للمستعمرة نفسها، بدلا من فردية أعضائها. في الواقع، في غموض المشاركة يصبح كل عضو مثل ملحق، أو خلية تنتمي إلى الجسم الأكبر للمجموعة. و يمكن أن يخلق هذا تجليا صوفيا ساحرا كانتماء لمجموعة أكبر والتسامي إلى مستوى أعلى كما توحي لغة المصطلح، لكن الحقيقة أن غموض المشاركة هو الآلية الأساسية لعلم نفس الجماهير. وتتمثل نتائجه الإجمالية في انخفاض مستوى الوعي والاستقلالية بين أعضاء المجموعة، و فقدان الهوية الفردية، والمبالغة في التعبير عن العواطف مما يؤدي إلى الإثارة المبالغ فيها و الغضب و العدوانية، وتغيير تفضيلات الفرد بحيث تصبح السلوكيات التي لم تكن مقبولة سابقا متقبلة عندما يجد أن الآخرين في ذات المجموعة يتقبلونها أو يقومون بها، و عدم الحاجة للكشف عن الهوية الفردية و هذا يقلل من إحساس الفرد بالمسؤولية و المساءلة، و يؤدي إلى تنصل المرء من مسؤولياته تجاه المجموعة و المجتمع كلما كانت المجموعة أكبر. هنا يتم تعليق منظور الفرد لصالح وعي المجموعة، أو بشكل أدق، للوصول إلى انعدام الوعي الذاتي عند الأفراد.
ويظهر خطر الجماعات، عندما ننتظر من الآخرين توجيهنا و تأكيد أفكارنا أو مشاعرنا و حدسنا، و الإجابة عن تساؤلاتنا، و كأننا نحن بذاتنا الفردية لا نكفي. فنتنازل عن مسؤوليات صنع القرار لدينا. إن اعتمادنا هذا على الآخرين للإجابة عن أسئلتنا يؤدي إلى نفي فرديتنا و استقلاليتنا و حكمتنا الداخلية. بيد أن المحاولات المستميتة لمواكبة ركب من حولنا في الاندماج تفقد الفرد كينونته.
الفكرة أنه في كل ما سبق، في عصر ما قبل السوشال ميديا، كان يمكن للإنسان أن يغلق الباب على نفسه، ليستعيد توازنه و فرديته، في انعزال يومي عن البشرية، ليتصل بذاته ووعيه الذي قاده إلى اكتشاف ظاهرة اللاوعي الجمعي منذ الإنسان البدائي. لكن و بسبب (الانفتاح المنغلق) كما أحب أن أسميه، بات الإنسان يعيش أربعا و عشرين ساعة، سبعة أيام في الأسبوع بين الناس، فيما أسميه مجموعة عملاقة أصبح ينتمي إليها قسرا، و يتأثر بالموجودين فيها ويتم توجيهه عبر اللاوعي الجمعي الذي يتم صنعه عبر خوارزميات وذكاء اصطناعي، فيقل استقلاله و تتأثر قراراته، و تنعدم فرديته، و بالمقابل يتم إقناعه عبر ذات اللاوعي الجمعي الذي صنعته السوشال ميديا عالميا أنها هي التي منحت البشر الفرصة الذهبية أن يعيشوا فرديتهم. و الحقيقة أننا نعيش مرحلة الانعدام الكلي للوعي الفردي في أعتى حالاتها!