حدثني والدي الدكتور باسم الدجاني رحمه الله مرة عن زيارة الملك الحسين للنقابات المهنية و حضوره الفجائي لاجتماع مجلس النقباء، بتاريخ ٥ مايو ١٩٩٨، تلك الزيارة التي نزعت فتيل الأزمة التي كانت تشتد حينا وتتراجع حينا بين الحكومة والنقابات حيث كانت الحكومة تلوح بين الحين والاخر بإصدار قانون جديد للنقابات يلغي الزامية العضوية في النقابات لتحييد سيطرتها على خريطة العمل المدني في الأردني. كان والدي حينها نقيبا للأطباء، حدثني كيف كان الحوار صريحا و صادقا بين الملك و النقباء. وقد ناقشوا الملك الحسين عن وضع النقابات ورؤيتها للمجتمع وهمومها المهنية وطلب النقباء ألا تكون الحكومة سيفا مسلطا على رقابهم وكذلك بينوا علاقة النقابات بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وفي هذا اعتراف من جميع الأطراف بضرورة استقلالية جهاز النقابات لما فيه خير للحياة المدنية والسياسية في الأردن.
لنصل إلى أن الاشتغال في السياسة يصب في صلب عمل النقابات. لأن مجرد الانتساب لعضوية نقابة مهنية أو عمالية ما، يعتبر فعلا سياسيا بحتا. فعندما تصبح عضوا في نقابة ما فهذه إشارة إلى أنك تؤمن بالديمقراطية في مكان عملك، ما يعني أنك تؤمن بأن البشر يستحقون أجورا عادلة وحياة جيدة، وبيئة عمل آمنة وحرية التعبير عن الرأي، والعمل لتطوير قطاعك، ودعم حقوق المرأة، وغيرها، وكلها في أصولها أفكار سياسية بحتة.
غير أن الحكومات غير الديمقراطية تلجأ إلى ترسيخ فكرة أن النقابات لا يجب أن تكون سياسية على الإطلاق. فلا ينبغي لها أن تتحدث عن الضرائب مثلا والسياسات العامة للدولة. وهنا يبرز جليا لجوء الحكومات إلى اعتبار تدخل النقابات في السياسة شيئا سيئا وخروج عن صلاحياتها، لأنها تهدم سلطتها وتزعزعها، وتهدد مكاسبها المضمونة.
وبرغم ذلك، في نهاية المطاف، الذي يحدد أولويات النقابات هم المهنيين أو العمال المنتسبين إليها والذين يشكلون تلك النقابة لا الحكومات. فإذا أرادوا هم اتخاذ موقف سياسي فعليهم القيام بذلك، إذا أرادوا طلب علاوة على أجورهم فلهم الحق في ذلك، وإذا أرادوا أن يتخذوا موقفا سياسيا ويقولوا أنهم يؤمنون بنظام رعاية صحي و قوي ممول من القطاع العام و يتم تقديمه للجمهور، فعليهم القيام بذلك، بل وعليهم ألا يترددوا هنا لأن التدخل في السياسة أمر جيد بل ومستحب.
فالنقابات سياسية بطبيعتها، وهي مثال راسخ على أن السياسة هي الطريق الوحيد للتغيير الحقيقي والجيد لجميع الناس وكل أطياف المجتمع حتى أولئك الذي لا ينضمون إلى مظلة نقابية ما. لأن النقابات في جوهرها تحفظ المجتمع وترفع سقف الأولويات والتطلعات والحريات أيضا. فإن تم التعدي عليها فقد تم التعدي على المجتمع بأكمله. لذا يحق للنقابات ليس فقط الانخراط في الأنشطة السياسية التي تبني وطنا أفضل، بل إنها تتحمل مسؤولية القيام بذلك لخدمة للمجتمع. فهي تعتبر تيرموميتر الحريات في المجتمعات وصمام الأمان.
النقابات والعمل السياسي
