2/9/2020
مريم الدجاني
بمناسبة قبول فيروز لوسام جوقة الشرف من الرئيس الفرنسي ماكرون. والشيء بالشيء يذكر، ففي عام ١٩٤٥ بعد الحرب العالمية الثانية، رفض الكاتب والفيلسوف جان بول سارتر وسام جوقة الشرف ذاته. بل رفض سارتر البالغ من العمر ٦٩ عاما جائزة نوبل في الأدب التي منحت له في أكتوبر ١٩٦٤. وكان الوحيد في تاريخ جائزة نوبل الذي رفضها بسبب مبدأ، و ليس لأن دولته طلبت منه رفض الجائزة. وقال سارتر أن لديه أسبابا شخصية وموضوعية لهذا الرفض. أما الشخصية فإن رفضه ليس فعلا مندفعا ولكنه أسلوب حياة اتخذه ككاتب، لأنه يرفض دائما التمييز الرسمي وكذلك الذي يتبع مؤسسات معينة، لأن الجوائز من شأنها أن تحد من تأثير كتاباته. و يعتمد موقفه هذا على تصوره لمشروع الكاتب الملتزم. الذي يجب عليه أن يتبنى المواقف السياسية والاجتماعية و الأدبية و أن يتصرف بالوسائل التي يملكها، أي الكلمة المكتوبة. فالتكريمات التي يحصل عليها الكاتب تشكل ضغطا غير مرغوب على قرائه. فإن توقيعه باسمه جان بول سارتر، سيختلف عن توقيعه باسم جان بول سارتر الحائز على جائزة نوبل.
إن الكاتب الذي يقبل تكريما من هذا النوع فإنه يعلن تبنيه لسياسات و أهداف المؤسسة التي كرمته. فاستعمال توقيع الحائز على جائزة نوبل يعني أنه يلتزم بجائزة نوبل بأكملها كمؤسسة. و على الكاتب أن ينأى بنفسه بل و أن يرفض أن يسمح لنفسه بأن يتحول إلى مؤسسة أو ممثل لها ليكون حرا.
أما الأسباب الموضوعية أنه اعتبر أن المعركة الوحيدة الممكنة اليوم على الجبهة الثقافية هي المعركة من أجل التعايش السلمي بين ثقافة الغرب و الشرق. و هو لا يعني هنا أن تحتضن ثقافة الأخرى، و إنما أن هذه المواجهة يجب أن تحدث بين البشر و بين الثقافات دون تدخل المؤسسات. لهذا السبب صرح سارتر انه لا يمكنه قبول التكريم الذي تمنحه السلطات الثقافية، تلك الموجودة في الغرب أكثر من تلك الموجودة في الشرق، على الرغم من تعاطفه معهم.
لا يمكن أن يتوجه الكاتب إلى قارئ عالمي، بل إلى قارئ في وطن خاص في موقف محدد. و ليس معنى ذلك أنه لا يتوجه من خلاله إلى كل الناس، و لكنه لا يتوجه إلى الناس إلا من خلاله. و إن الحديث عن الحرية في معناها المجرد لا يجدي، لأنها لا تكتسب معناها الحق إلا في موقف معين. وإن الكاتب الحق ترهبه المجتمعات لأنه ينقلها من حالة اللاشعور إلى حالة الشعور. فالكاتب في صراع مستمر مع قوى المحافظة و الجمود. لكن ضمير الكاتب قد يهبط إلى أدنى مستوياته إذا هو أصبح في عداد الطبقات الاجتماعية المميزة بدلا من أن يكون على هامشها.
وقد يتنصل الكاتب من مسؤوليته في الشهادة والكشف، فإذا بأدبه و كأنه نشيد ساذج يتغنى بألحان الحب و سط الضرب بالقنابل و المذابح و القرى المحترقة و النفي، فيفقد جمهوره. لذا من حق جمهوره أن يحاسبه على أساس حالته في المجتمع. و حالته لا تنحصر في أنه إنسان و حسب، بل و أنه على وجه التحديد كاتب. لأن من بين صفاتنا ما مصدره الوحيد أحكام الآخرين علينا. و في حالة الكاتب يصبح الموضوع اكثر تعقيدا، لأنه ليس هناك إنسان مضطر إلى اختيار مهنة الكتابة لنفسه، و إذن فالحرية هي الأصل فيها. فيعتبر الكاتب بالنسبة للناس بمثابة الضمير.
في الحقيقة لا ينبغي أن يدفع للكاتب أي أجر. و إنما يمنح قوته سيئا أو جيدا حسب العصور. و إنه يمكن اعتبار نشاطه ضار أحيانا لما يتولد في المجتمع الذي يكتب له من وعي ذلك المجتمع بنفسه. و يعرف الناس على النافع حسب النظر إلى قوانين المجتمع. إن الكاتب يقدم صورة المجتمع للمجتمع. و يهيئه لتحمل التبعية فيها أو تغييرها. و لا مفر بعد ذلك من أي يتغير ذلك المجتمع، إذ يفقد التوازن الذي أكسبه إياه الجهل، و يتسلل شعور العار إليه، و هكذا يعطي المجتمع شعورا بشقاء الضمير. و من هنا يظل الكاتب في صراع دائم مع القوى المحافظة الحريصة على التوازن، هذه القوى التي يحاول هو أن يحطمها. لأن الانتقال المباشر و هو أمر لا يتم إلا بنفي اللامباشر، نقول إن هذا الانتقال ثورة دائمة.
ولأن الطبقات الحاكمة عادة وحدها هي المتحررة من هموم المادة، فإن لديها القدرة على تلافي خطر# الكاتب بتقديم الفتات له ليشرفوا على قوته الهدامة بالنسبة لهم. فالكاتب هو طفيلي الصفوة الحاكمة. كما ذكر في ملهاة ألفها بومارشيه في القرن الثامن عشر.
وشقاء الضمير هذا هو ما يوصل الكاتب لأن يصبح في عداد الطبقة ذات الامتيازات بدلا من أن يكون على هامشها. و هنا يتوحد الأدب مع أحلام الحاكمين و يصبح الكاتب مجرد وسيط، و يصبح موضوع الجدل التفاصيل. و إذا كان جوهر الكتابة حقا هو الكشف عن الحرية، و القصد من وراء ذلك الدعوة إلى حرية الآخرين، فمن الحق كذلك أن أشكال الاضطهاد المختلفة التي تحجب عن الناس حقيقة أنهم أحرار، تحجب كذلك عن المؤلفين جوهر الأدب كله أو بعضه. فيتبع ذلك أن تكون الأفكار التي يكونونها عن مهنتهم أفكارا مبتورة، فهي تحتوي دائما على شيء من الحقيقة، و لكن تصير هذه الحقيقة الجزئية المعزولة ضلالا إذا توقف عندها. لهذا من الممكن للكتابة في عصر معين أن تسلب إذا لم تصل إلى الوعي الواضح باستقلالها، فتخضع للسلطة الزمنية، أو السياسية، أو عندما تعتبر نفسها وسيلة لا غاية مطلقة من كل قيد.
إن وظيفة الكاتب أن يسمي الأشياء بأسمائها. و إذا كانت الكلمات مريضة، فعلينا شفاؤها. و بدلا من أن نقوم بهذا العلاج، يعيش كثير منا من هذا المرض. و الأدب في كثير من الحالات، نوع من سرطان في الكلمات.
إذن واجب الكتاب الأول أن ندعم من جديد مكانة اللغة. و أن نفكر بوساطة الكلمات. قد نعتقد غرورا أن فينا أنواعا من الجمال المعجز للوصف التي ليست اللغة أهلا للتعبير عنها، غير أنا نحترس من المعاني التي لا يمكن الإفضاء بها، فهي منبع كل عنف. عندما يستحيل علينا أن نجعل غيرنا يشاركنا اليقين الذي نتمتع به، فلن يتبقى لنا سوى الضرب و الإحراق و الشنق. فنحن لسنا أفضل من حياتنا، و على حسب حياتنا يجب أن يحكم علينا غيرنا، و ليست أفكارنا أفضل من لغتنا، و يجب أن يحكم على الفكرة على حسب كيفية استخدامها للغة. و إذا أردنا أن نرجع إلى الكلمات قوتها، فعلينا أن نطهر الكلمات من معانيها الطفيلية، و أن نوسع تراكيبها لنجعلها مناسبة للموقف التاريخي. و إذا أراد كاتب أن يكرس جهده كله للقيام بهذا الواجب، فلن يتبقى من حياته بقية، و لكنا إذا اشتركنا فيه جميعا أنجزناه.
و بما أن الكاتب يتوجه إلى حرية قارئه، و بما أن كل ضمير مخدوع بوصفه شريكا في الإثم للخدعة التي قيدته، فلن يمكننا أن نكون كتابا إلا إذا أخذنا على عاتقنا أن نتخذ موقفا ضد جميع المظالم، أيا ما كان مصدرها. و لن يكون هناك معنى لما نكتب إذا لم نتخذ لأنفسنا هدفا ثابتا. و إلا فلن نكون سوى كتابا خائنين.