2/10/2020
مريم الدجاني
لا أندم على شيء،
لا الخير الذي أتاني
و لا حتى الشر، كلاهما سواء بالنسبة لي.
فقد دفعت ثمنه كله، و تلاشى، حتى طواه النسيان
أنا لا آبه بالماضي
مع ذكرياتي
أشعلت النار
أحزاني، لذاتي
لست بحاجة إليها بعد الآن
جرفت الحب
مع رعشاته
تلاشى إلى الأبد.
سأبدأ من الصفر
لا شيء على الإطلاق
لا أندم على شيء،
كان صوت إديت بياف القوي الجهوري يصدح في السيارة بلا ندم في أغنيتها Non, je ne regretted rien، في كل مرة أختار اللامبالاة و قوة التحرر من كل شيء، الماضي، الحزن و حتى الفرح، في توق لبداية مشرقة نقية جديدة.
يذكر برنارد ماركوس، في كتابه (إديت بياف)، أن المؤلف الموسيقي تشارلز دومون قال أن مايكل فوكير الذي كتب الأغنية أخبره أنها كانت في الأصل تحت عنوان: لا، لن أجد أي شيء. و أن الأغنية كانت قد كتبت للمغنية الفرنسية الشهيرة روزالي دوبوا. و لكن عندما قرر أن يعطيها لإديت، غير عنوانها إلى: لا، أنا لا أندم على شيء.
يقول الصحفي جان نولي في معرض حديثه عن بياف، أنه عندما زار دومون و فوكير منزل بياف في بوليفارد لانس في باريس في ٢٤ أكتوبر ١٩٦٠، استقبلتهم بطريقة فظة وغير ودية، حتى أنها تركتهم ينتظرونها في غرفة الجلوس ساعة كاملة قبل أن تخرج لهم، و قد كان دومون قد حاول عدة مرات أن يعرض مؤلفاته على بياف دون أن ينال استحسانها، حتى دبرت لهم مدبرة منزلها هذا الموعد الغير مرغوب به. عندما خرجت بياف للقائهم قالت لهم أنها متعبة، و لديهم فرصة أن يعرضوا عليها أغنية واحدة فقط. غنى دومون حينها الأغنية بصوت منخفض من فرط الارتباك، ثم ساد صمت ثقيل، قبل أن تطلب بياف منه بصوتها الحاد أن يغنيها مرةأخرى. و قبل أن ينهيها صاحت: رائعة، هائلة، هذا ما كنت أنتظره، ستكون هذه الأغنية نجاحي الأكبر، و أريد أن أغنيها في حفلتي القادمة في L’Olympia.
ليجيبها فوكير بسعادة: هي ملكك، إديت. بيت القصيد أن إديت أهدت هذه الأغنية لفيلق الجيش الفرنسي الذي يقاتل على أراضي أجنبية فيما يسمى بfrench foreign Legion، حيث كانت فرنسا منخرطة في ذلك الوقت في حربها ضد الجزائر١٩٦٢. وإن في فعل الإهداء و نوعه تحديدا واضحا لقيمة العمل الفني و هدفه و روحه و الأثر الذي يرجى منه.
ففي ذلك الوقت كانت الجزائر تحارب لنيل استقلالها من فرنسا، في حرب استمرت من ١٩٥٤حتى ١٩٦٢ و كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول بات مستعدا للخروج من الجزائر بعد هذه الحرب المستنفدة لفرنسا، في قرار مثير للجدل، مما أدى إلى انقلاب في الجيش الفرنسي عام ١٩٦١ بقيادة الفيلق الأجنبي الذي كان مستميتا في احتلاله للجزائر وراغبا في إبقائها تحت السيطرة الفرنسية. وبعد فشل الانقلاب، تم اعتقال الكثير من الجنود، وقد عوقب الضباط في نهاية المطاف و تمت محاكمتهم، و أطلق سراح الآخرين، و لكن في هذا الأثناء كان الكثير من الفرنسيين يعبرون عن دعمهم للجنود الذين كانوا يقاتلون في سبيل فرنسا من وجهة نظرهم. و في هذا السياق، أهدت إديت بياف أغنيتها للفيلق الأجنبي، ليغنيها حول الانقلاب: لا، لا أندم على شيء. لتعبر حتى اليوم عن شعور الجنود الفرنسيين الذين لم يندموا على انقلابهم على قيادتهم ليستمر احتلال الجزائر بدلا من الانسحاب منها، كما انتهت بها الأمور. وكان فوج المظلات الأول من ضمن الفيلق الأجنبي الذي دعم الانقلاب الفاشل قد تبنى أغنية بياف التي تبدو في ظاهرها أغنية حب لكن أبعادها السياسية كانت أعمق من ذلك، فبعد أن تم إلقاء القبض على قيادة فوج المظلات ومحاكمته، تم تعيين ضباط الصف و العريفين و الجنود في تشكيلات فيالق أخرى، و حين غادروا ثكناتهم كانوا يغنون هذه الأغنية التي أصبحت الآن جزءا من تراث الفيلق الأجنبي الفرنسي، و يغنونها كلما كانوا في موكب.
أما بعد اكتشافي للتاريخ السياسي لهذه الأغنية، لم تعد أذني تطرب أو تستعذب هذه الأغنية، بل باتت تثير في الغضب والرغبة في الانتقام لمليون ونصف المليون جزائري الذين قتلوا على يدي الجيش الفرنسي، فما بالك بالتمتع بأغنية باتت نشيدا قوميا للفرنسيين الذين كانوا مع احتلال الجزائر لآخر رمق؟ لقد نفضت الأغنية هذه بعض الغبار الذي تراكم في السنوات الأخيرة على روحي الثورية، ذلك الغبار المتمثل في أن الفن لغة عالمية، و يجب تقديره والتركيز عليه بذاته، لا خلفيات مُؤدّيْه. لأصل إلى ذات النتيجة القديمة، أن الفن سياسي بأصله، وإن لم نجد رابطا واضحا بين الفن والسياسة في أي عمل فني، فإننا لم نبحث كفاية بعد.
وعلى النقيض من الحقيقة المتداولة، من أن الموهبة الحقيقية لا تنتج إلا من روح حرة. كما قال بوريس جرويس الفيلسوف و الألماني والناقد الفني الأشهر: للفن قوته الخاصة في العالم، و قوته حاضرة في السياسة العالمية الحالية بقدر ما كان له أثر في سياسات الحرب الباردة سابقا.
يعتقد بعض الفنانين و النقاد الاجتماعيين أن الفن عديم الفائدة كأداة للتغيير السياسي، و مع ذلك هناك أمثلة عديدة تثبت أن الفن يستخدم في خدمة التغيير السياسي. يقول الشاعر البريطاني شيلي: الشعراء هم المشرعون غير المعترف بهم في العالم. و كذلك يقول الشاعر الإيطالي أنغاريني في مقابلة أجراها مع المخرج باسوليني حول تجاوزات الفيلم الوثائقي (لقاءات الحب) عام ١٩٦٤: إن أساس الشعر تجاوز كل القوانين.
أما السياسي ديفيد إيستون فقد عرف السياسة على أنها: تحديد لقيم المجتمع. و هذا يعني ضمنيا أن السياسة ليست نظاما محايدا اجتماعيا، فهي تحدد ما هو جيد و ما هو سيء، وما هو مسموح به و ما الذي يعاقب عليه، و ما هو ذو قيمة، و ما لا قيمة له.و قد يتم هذا بشكل جماعي و تعاوني في نظام يسمى ديمقراطي، أو قد يتم ذلك غصبا من جانب واحد كنظام ديكتاتوري. ثم يتدخل الاقتصاد والقيم الرأسمالية، لكن في النهاية السياسة تقوم ضمنيا بتحديد القيم العامة لأي مجتمع. و الفن بجميع أشكاله ليس إلا تعبيرا صريحا عن تلك القيم. فعندما يرسم الرسام حقلا، فإنه يخلق قيمة لطبيعة الريف. و عندما يكون الممثل بطلا أو شريرا، فإنه يضع لنا أساسا لتقييمنا لمقاييس كون الإنسان جيدا أو سيئا. و عندما يصور المصور صورة، فإنه يحدد لنا مقاييس الجمال الذي يجب أن نتوقعه في الشيء الذي صوره أيا كان. وعندما يغني مغن عن قلبه المكسور و شغفه اللامتناهي، أو عن الجنس الرخيص و إدمان المخدرات، فإنه يخبرنا عن كيف يجب أن نعتقد أنه صحيح و جيد للحب وللعلاقات الجنسية.
إن كل شكل من أشكال الفن يرفع القيم التي يُتوقع منا قبولها أو رفضها لأننا نقدر الفن، و لذا، نعم، الفن سياسي، و كل الفنون سياسية لأن الفن يرسم وجهة نظر عالمية. و الفن الحديث تحديدا هو تفكير جماعي، و أيديولوجيته، سياسة لا فن، و الجميع يقرأ على شيخ واحد: الليبرالية.